كلمة الرئيس نبيه بري بمناسبة تكريمه من قبل السيد توفيق حاراتي


 

للبقاع، السهل الممتنع، الذي تراهق شمس صبية في كرومه منذ فجر الخليقة، والذي ما زال يبحث عن حصان جديد يحمل خطوة احلامه ويسبق الريح.
للبقاع، اليد المرسومة بالسيف، والمنازل المفتوحة للضيف، المتأهب للحضور اذا ما غدر الزمن.
للبقاع الذي يشبه موتنا شهداء، ويشبه حياتنا شهودا"، والذي قال خير الكلام عن الوطن والحرمان في بعلبك، فأزدهر الوطن بالانتباه والمقاومة.
ولبعلبك، شجرة السهـل وهمسة النسمة، وروح الماء ورأس عين الكلام .
لزحلة، عروس السهل التي تفتح الباب لضحكة البردوني، والتي تحاكي الشمس بلغة الشعر.
وللهـرمل، البعيدة القريبة، حارسة الانتظار، زنبقة الجـرد ودم الماء، ورأس مال الكلام لأسماء البقاع كلها ...
للبقاع الغربي الذي ينظر الى نفسه في مرآة الوطن فيرى الجنوب، والذي يرى فيه الجنوب توأم روحه.
للبقاع الغربي الذي حمل روحه على كف الوطن منذ ان اشتعلت النار من الناقورة الى العرقوب، ومنذ ان اشتعل دمنا في مشغرة وسحمر ويحمر ولبايا وزلايا، الى قانا واخواتها في الجنوب.
للبقاع الغربي، الذي يحدق في السد الخجول منتظرا" ان نفتح بابا" للماء فلا يمتصه البحر ...
للبقاع وللجنوب وللبنان في هذا اللقاء، وعد لا زال يعطش على ضفة المطر من اجل الحقيقة والحق،
 

وبعـد وبعـد,
 

بداية اشكر من صميم قلبي المحبة الغامرة التي يؤكدها يوما" بعد يوم السيد توفيق حاراتي وعائلته الكريمة عبر هذا الاحتفال التكريمي.
 

وقد رحبت بإنعقاد هذا اللقاء من اجل قول كلمة حق في ابناء لبنان المغتربين، عبر واحد من رموزهم حمل لبنان في قلبه ولا زال، وذلك من اجل ان اطرح قضية الاغتراب على العهد وعلى لبنان كما المسها واحسها.
 

انني هنا لا ارغب بتكرار كلامي عن حجم الاغتراب اللبناني، الا اني اود ان اؤيد كلامي بأن لبنان لن يحلق الا بجانحيه المقيم والمغترب، وانه بات من المستحيل على لبنان وعلى أي بلد من البلدان النامية توقع المن والسلوى من أي جهة، ومن الطبيعي كذلك ان لا نمضي في سياسة المديونية الخارجية ورهن مستقبل اجيالنا، وعليه فإن الرهان يبقى على اللبنانيين انفسهم في اعادة انتاج الموقع الاقتصادي للبنان.
 

اقول ذلك بكل ثقة لأن الكلام الاخير الذي سمعته من اعلى مستويات المسؤولية في غير بلد شقيق وصديق حول رغبة بلدانهم ورهانهم على دور يلعبه رجال الاعمال اللبنانيون في اطلاق دينامية اقتصادية لمصلحة بلدانهم ولبنان، تكشف ان اللبناني اصبح انموذجا" عالميا" في فتح افاق العمليات الاقتصادية التجارية.
 

ان العالم كله يحاول ان يفتح الابواب بإتجاه اللبنانيين المنتشرين، وبإتجاه لبنان المقيم موقعا" ودورا" في الوقت الذي ندفن فيه رؤوسنا حتى لا نرى انفسنا في مرآة الواقع، وحتى لا نرى جالياتنا المنتشرة.
 

انني ومنذ مطلع الثمانينات اقود حملة للاستثمار على موارد لبنان البشرية المقيمة والمنتشرة، وهذا الاستثمار ليس ماديا" فحسب، بل استثمار على قوة فعل سياسية يمثلها اللبنانيون وقوة فعل معنوية تجاه قضايا لبنان والمنطقة، وقوة فعل انسانية تجاه النتائج المترتبة على الاعتداءات الاسرائيلية على بلدنا.

انني لم اكن اقود حملة توصلا" الى انشاء وزارة للمغتربين وكفى الله المؤمنين شر القتال.
فقد قلت في السابق ان حجم لبنان المغترب يحتاج الى حكومة تعنى بشؤونهم وتوظف طاقاتهم وامكانياتهم، فقد حاولت على الدوام بلورة مشروع اغترابي، وكانت هذه المحاولة تصطدم تارة بالذين ارادوا اختصار لبنان على ما فيه، او بالذين يحاولون تسييس الوقائع الاغترابية ونقل امراض لبنان المقيم الى عالم الاغتراب، ودفع المغتربين للوقوف على محاور فئوية او طائفية او مناطقية او كيانية.

ويشهد السيد توفيق حاراتي واللبنانيون في البرازيل كما في استراليا والولايات المتحدة وافريقيا والخليج واوروبا واي مكان، انني عملت من اجل ايقاظ الوجدان الوطني والقومي، ومن اجل ان لا تضيع اجيال اللبنانيين كما يحدث اليوم، وتذوب شخصيتهم نهائيا" في البلدان المضيفة، وقد طرحت حيث حللت انشاء مجلس اعلى للاغتراب من شخصيات اغترابية، تسهم في رسم سياسة اغترابية تجذب ابناءنا في العالم للمشاركة في كل ما ينتج حياة الدولة والمجتمع في لبنان.

وطرحت انشاء مصرف اغترابي، حتى انني تجرأت على القول اننا يجب ان نطبق نفس سياسة الوكالة اليهودية في جميع الشتات اللبناني والعربي ايضا"، على قاعدة معكوسة لتلك التي اتبعها الصهاينـة في فلسطين، والتي قالت بأرض بلا شعب لشعب بلا ارض، وقلت ان ابناء لبنان الذين صمدوا في الجهاد الاكبر ضد انفسهم حين اجتاحت الفتنة لبنـان، والذين صمدوا في الجهاد الاصغر ضد العدو الاسرائيلي الذي يحتل الارض ويعتـدي على الوطن، هؤلاء حفظوا لبنان للجميع، وقاعدتنا للعمل هي "ارضنا لشعبنا ".

لقد طلبت الى ادارة التوثيق في مجلس النواب جمع كل تلك الافكار المتعلقة بالاغتراب، والتي ضمنتها لمواقفي وخبرتي وتجهيز ملف متكامل لوضعه في اليد الامنة واقصد فخامة رئيس الجمهورية العماد لحود، وكذلك على طاولة الحكومة لبلورة تحرك مدروس نحو لبنان في العالم، وهو تحرك لن يحمل الخزينة اعباء اضافية، بل اجزم انه سيكون لمصلحة الخزينة ولمصلحة التنمية ولمصلحة الثقة بالدولة.

انني على يقين بأن فخامة الرئيس لن يألو جهدا" من اجل تنظيم طاقات وامكانيات الاغتراب اللبناني، ومن اجل استثمار خبرات ومواقع وقوة هذه القوة اللبنانية المادية والمعنوية، وسيثبت الوقت ان التجربة هي البرهان للدلالة على الحس الوطني المتقدم للمغتربين في الاستجابة لمشروع الاكتتاب لدعم صمود لبنان وازالة اثار العدوان الاسرائيلي.

الا اني اوجه عناية الدولة الى ضرورة مأسسة الرهان على موارد لبنان البشرية المغترب عبر اعادة انتاج الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم، وتركها لتلعب دورها المطلوب بعيدا" عن الاسثتمار السياسي والتداخل السياسي من أي نوع، على قاعدة اطلاق مشروع البطاقة الاغترابية التي من شأنه ان يسهم في انتظام قواعد الجاليات اللبنانية.

ايتها السيدات والسادة

لقد خصع لبنان اواخر حزيران المنصرم لتجربة قاسية قصدت من خلالها اسرائيل امتحان بلدنا. لقد اثبت لبنان مجددا" انه قوي بوحدته الوطنية وبدعم اشقائه وفي الطليعة سوريا التي سارعت لمد يدها البيضاء الى لبنان مقابل الظلام والدمار الاسرائيلي.
لقد افشل لبنان محاولة الحكومة الاسرائيلية السابقة اسقاط تفاهم نيسان، ومن ثم العودة الى اطلاق يد الحكومة الجديدة والجيش الاسرائيلي للانتقام من لبنان وما تحقق من انجازات. لقد نجح لبنام مقاومة ودولة في امتحان استعادة جزين دون شروط، وسقطت اسرائيل في تجربة ( جزين اولا" ) وسيتمكن لبنان من استعادة الاجـزاء العزيزة من ارضه التي تحتلها اسرائيل دون شروط ارتكازا" الى :
 

أ ـ وحدتنا الوطنية
ب ـ المقاومة التي هي سلاح السلام اللبناني
ج ـ وحدة المصير مع سوريا
 

انني اشدد على هذه الاقانيم الثلاثة مجددا"، لأن مخاوفنا وهواجسنا التي اطلقناها على خلفية الانتخابات الاسرائيلية من خلال كلمة لبنان في اجتماع دمشق لمجلس الاتحاد البرلماني العربي من باراك وبرنامجه تثبت صحتها يوما" بعد يوم.
 

لقد اختتم باراك زيارته الاميركية الاولى وهو مصمم على لاءاته.
فقد اقفل باراك باب القدس وجدد شروطه المتعلقة بالترتيبات مع لبنان وبالانسحاب من الجولان، وعاد من واشنطن مزودا" بأربع وستين طائرة من احدث الطائرات القتالية في العالم.
 

فأي رسول للسلام هو باراك بعد هذه الجرعة الجوية ؟
وهل الذهاب الى السلام لا يتم سوى بالطائرات الحربية ؟
 

ان صناعة السلام لا يمكن ان تتم بأعادة شحذ المخالب الاسرائيلية، بل بالقناعة بعجز القوة الاسرائيلية عن فرض وقائع ومتغيرات جغرافية واستراتيجية على ابواب الالفية الثالثة.
 

اننا في لبنان المقيم والمغترب مطالبون بالاستعداد لمواجهة أي استحقاق قد ينجم عن محاولة اسرائيل امتحان بلدنا او اعتباره نقطة الانكسار في النظام العربي.

ان الدولة مطالبة ازاء ذلك بتعزيز عناصر الصمود الوطني انطلاقا" من الحفاظ على تماسك وقوة ومتانة قواعد الارتكاز الشعبية.
ان هذا الامر يحتاج الى اجراءات تصحيحية رسمية في مجال تصريف افعال الدولة لا اقوالها، انطلاقا" من فتح ملفات المشاريع المجدية التي تحتاجها المناطق المحرومة خصوصا" البقاع وعكار وجبيل وكسروان ثم الجنوب.

اننا في البقاع ومختلف المناطق لازلنا نقف عند المطالب التنموية التي سبق وحملتها وثيقة حركة المحرومين، ولا زلنا نتطلع الى الدولة بأمل لعلها تبادر الى تنفيذ المشروعات ذات الجدوى الاقتصادية وخصوصا" المشروعات المائية التي ستسهم دون شك في زيادة المساحات الزراعية وفي زيادة قوة العمالة والانتاج.

ان البقاع الذي طوى صفحة الزراعات الحرام مجددا" ثقته بالدولة، انتظر من الحكومة السابقة المرة تلو المرة الاستجابة الى اطلاق مشروعات تنموية بعد ان تم تخصيص اعتماد قدره مئة وخمسون مليار ليرة لذلك الا ان شيئا" لم يتحقق. والبقاع والمناطق المحرومة الاخرى انتظروا من الحكومة الحالية الامساك بالمبادرة ونأمل ان لا يخيب ظنهم.

ان الحكومة مطالبة كذلك بسلوك طريق مختلف في دراسة سياسة القروض مع اللجنة النيابية للتخطيط والانماء، انطلاقا" من برنامج وطني يرتب اوليات ملفات مشاريع التنمية العلاجية الضرورية للمناطق المحرومة ومن ثم تنفيذ مشروعات تنمية مستدامة متوازنة.

ان عناوين الخطاب السياسي للمستويين الرسمي والشعبي المتعلقة بالصمود والمقاومة واستقرار النظام العام، ترتكز كلها على ازالة الحرمان والغبن باحداث ثورة في مفهوم التنمية سواء تنمية الموارد البشرية او تنمية الموارد الوطنية.

ايتها السيدات والسادة،

لقد جرت محاولات متعددة لهز الثقة بالدولة وللنيل من علاقات السلطات بعضها ببعض.
 

اننا نقول انه لا يوجد مياه عكرة تسمح للصيادين بالقاء طعومهم الصفراء فيها.
ونقول ان الاختلاف في الرأي حول أي مسألة هو تعبير ديموقراطي لا يفسد في الود قضية، وان المسؤولين في لبنان قادرون على ادارة اختلافهم في اطار مسؤولياتهم الوطنية والدستورية.

ان عناوين كبيرة مثل ميزانية الدولة والخطة الخمسية واللامركزية وقانون الانتخابات، تخضع في أي بلد في العـالم للكثير من التمحيص والتجاذبات، ثم ان التصويت تحت قبة البرلمان يحسم كل جدل ويجعل الجميع تحت القانون، وهو نفس الامر المطبق في اعرق الديموقراطيات.

ايتها السيدات والسادة،

اننا في هذا اللقاء الاغترابي والوطني نطمئن الصديق توفيق الحاراتي وكل مواطنينا في البرازيل وعلى مساحة الانتشار اللبناني، ان لبنانهم بالف خير وان بلدهم الذي لم تتمكن اسرائيل من اسقاطه عسكريا" لن يسقط اقتصاديا" او اجتماعيا" او ثقافيا" او امنيا"، وان لبنان الذي يصنع ويبني سلامه ارتكازا" الى المشاركة في الداخل والى الشراكة مع سوريا على المستوى القومي، صامد صمود الصخرة التي هي صور، وصمود عاصمة المقاومة صيدا، وصمود عاصمة لبنان بيروت، وصمود ارز الباروك والشمال، وقلعتي طرابلس وبعلبك، صمود اهلنا الصابرين المقاومين في البقاع الغربي.

ان بلدنا الذي يملك هذا الرصيد من محبة ابنائه المغتربين سيبقى انموذج التعايش والوحدة.

اخيراً اكرر شكري الخالص على هذا اللقاء التكريمي الذي اهديه الى المغتربين وانا منهم، ولدت حيث عذاباتهم وعشت في اتونه، وترعرعت على حبهم واخلاصهم وايمانهم بلبنان.
 

عشتم
عاش لبنان

 


أعلى الصفحة | اتصل بنا |

حقوق الطبع محفوظة 2003 ©

أنجز هذا الموقع الفريق الفني في مصلحة المعلوماتية - مجلس النواب اللبناني