كلمة الرئيس نبيه بري في عشاء جمعية متخرجي المقاصد الإسلامية


 

ألقى رئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه برّي مساء الأربعاء 10/11/1999 كلمة في عشاء أقامته جمعية متخرجي المقاصد على شرف محامين من خريجين وخريجات في فندق رويال بلازا، شارك الرئيس رشيد الصلح والرئيس الفخري للجمعية النائب تمام سلام وعقيلته ونقيب المحامين في بيروت أنطوان قليموس ورئيس جمعية متخرجي المقاصد مازن شربجي وقضاة ومحامون وحشد من الشخصيات.


استهل الرئيس برّي الكلام، فقال :
 

لأنه كان لا بد من مكان لعمادة أحلامنا
ولأنه كان لا بد من مكان يفتح شهية القمر ليخفق بالضوء
ولأنه كان لا بد من مرايا لشموس القصائد
ولأنه كان لا بد من شاطئ لاستراحة البحر
ولأنه كان لا بد من عاصمة لأسمائنا وسماء لأرضنا وارض لسمائنا
كانت بيــروت
 

لبيروت، عنقود القرى، وحجرة الالوان، ومساءات النوارس، لصياحها الجميل الذي يفتح عيوننا على صهيل البحر
ولمسائها الجليل الذي يضيء مصابيحها بالسهر،
ليومها الذي يأكل بعرق جبينه
ولأيامها مبتدأ التاريخ وخبر المقاومة
لأسمائها : " مرضع القوانين " : المدرسة الأولى في الشرق للحقوق والواجبات، " عروس الشرق "، " مختبر الثقافة العربية " و " جسر الفكر والحداثة ".
ولأسمها الواقف على طلل العواصم
لصمتها الذي علم صوتنا كيف يثاغي بالاحرف الاولى، وكيف يبوح عما بيننا من الملح والقمح.
ولحضنها الذي استقبلنا ونحن قادمون من جهات الوطن، محرومين في وطننا ومحرومين من وطننا في الجهة السادسة، ومهجرين من الجهات.
لبيروت العاصمة، نرفع اليها من مكتبتها ومدرستها المقاصد، المكان الذي تعلمنا فيه ان نرد السلام بأحسن منه تحية خالصة من القلب، في هذا اليوم الى المقاصد التي حملت لبنان وفي قلبها بيروت.
وبعد وبعد : اسمحوا لي ان اخرج عن الموضوع قليلا" وسابقى اطوف به.
فلندخل بيروت من بوابتها في خلده :
 

وفي خلده، من ذلك العام، عام الحصار 1982 وقف بضعة من فدائيي ارضنا بقبضاتهم العارية سوى من بضع بنادق الية وقاذفات، يتصدون لجحافل الغازي الاسرائيلي على بوابة عاصمتهم.
 

ويومها، سجل اللبنانيون اولى ملاحم مقاومتهم عندما اوقفوا التقدم الاسرائيلي ودمروا عددا" من الاليات واسروا بعضها الاخر، وكانت تلك الملحمة الاولى التي كسرت حاجز الخوف من الجيش الـذي كان لا يقهر، وقهره مقاومون صمموا ان يثبتوا انه لا يمكن اخذ لبنان إلى العصر الاسرائيلي.
 

ثم ها نحن ندخل بيروت من بوابة المقاومة لنقف في حضرة الامام الاوزاعي، احد كبار مفكري الانفتاح الاسلامي المسيحي والذي عرف القاضي بانه هو الشخص الذي لا يميل بنظره الى احد المتخاصمين على الاخر، ثم لنقف في حضرة المدينة تلامذة نتجمع كالنحل على رحيق مدرستها الاولى المقاصد، التي كانت ملجأ وملاذا" للامام المفكر محمـد عبده، ثم لنجمع غلال المعرفة، من بذار الفكر والفلسفة واللغة الطيبة، التي القاها على صفحات حقول كتبها الجليل عبدالله العلايلي، واخرون في مقدمهم احمد البربير ويوسف الاسير وعبد القادر القباني وصبحي المحمصاني ومحمد جميل بيهم وعمر فروخ ومنير بعلبكي وزكي النقاش وعيرهم وغيرهم.
 

ثم ها نحن في بيروت عاصمة الحرية، وموئل احرار العرب الذين تمكن جمال باشا السفاح من اغتيال بعضهم، وفي مقدمهم عبد الغني العريس الصحافي الشهيد وعمر حمد وعبدالكريم الجليل وغيرهم.
 

ها نحن في بيروت ضمير العرب ومنبر حديقة الحرية، ومطبعة الشرق ودار نشره ومسرحه القومي، ووتر الموسيقيين والمعرض التشكيلي الدائم، صندوق فرجة الالوان وكتاب الحكواتي المفتوح على " الف ليلة وليلة ".
 

ثم ها نحن في المقاصد قلب بيروت النابض، الصرح التربوي الذي يحق له ان يفخر بالسجل الذهبي لالاف الخريجين الذي دخلوا في ما بعد مدرسة الوطن، واثبتوا انهم استحقوا شهادات تقديرهم ونجاحهم وانهم حصن هذا الوطن.
 

ان استحقاق منبر المقاصد، والوقوف في حضرة هذا الصرح التربوي واساتذته وبوجود مجلس ادارة جمعية المقاصد الخيرية وعلى رأسها الزميل الصديق تمام سلام، وبوجود الكثيرين من الزملاء على مقاعد الدراسة هو شرف كبير لي.
 

لذلك، فإنني اليوم ومن على منبر هذه الجمعية التي ناف عمرها عن المئة والعشرين سنة، والتي رافقت تشكل الحياة السياسية العربية وحروب استقلال العديد من الاقطار، ومرحلة تبلور الوعي القومي والصراع العربي الاسرائيلي - انني اليوم - وفي هذا الاحتفال الذي تقيمه جمعية الخريجين المقاصدية ادعو الى استخلاص العبر في بناءالمؤسسات التربوية من هذه التجربة المديدة على مستقبل اجيالنا.
 

ايها الاعزاء
 

انني ومن على هذا المنبر منبر المقاصد، وبعدما اصبح للسلام الاهلي صناع واباء كثيرون وتنكروا لادوارهم وكأن الاخرين صناع الحرب، اتوجه للجميع بالقول : اننا كنا اخر من حمل السلاح خصوصا" بعد عمليات القتل على الهوية والفرز السكاني، وبعد ان انقسم كل شيء على نفسه وتشظى الوطن ووصل الموسى الى لحية كل مواطن حي.
 

لقد كنا ندرك عندما اجبرنا على الانخراط في الحرب الفتنة ان كل الحروب سيئة واسوأها تلك التي تدور رحاها بين ابناء الوطن الواحد وعلى مساحة الجسد الواحد، حيث تتقاتل الحواس والمشاعر والعواطف والوجدان والقلب.
وعندما اجبرنا على تحمل مسؤولية امن بيروت في اعقاب الانتفاضة التي حدثت بعد ان دكت مدفعية السلطة القائمة انذاك الضاحية وبيروت، تقدمت برجاء خاص الى سماحة مفتي الجمهورية الشهيد المرحوم الشيخ حسن خالد، وهذا امر يعرفه دولة الرئيس صائب سلام،كي يمنع عنا هذا القميص الامني الوسخ، وسعيت لتجنب هذا الفخ، والى تجنب ادارة حروب استتباع داخل بيروت بين ابناء الصف الواحد، وكنت دائما" احرص على بيروت من نفسها، ولكن وحشية الحرب وادواتها ووسائلها كانت اقوى من كل اجراء، كما ان تلك المسؤوليات كانت تثقل كاهلنا ونحن نقود مقاومتنا للاحتـلال الاسرائيلي، لذلك كنا دائما" اول المبادرين إلى كل دعوة للخلاص، واكثر المحاورين اخلاصا" من لوزان إلى الاتفاق الثلاثي وما بينهما، من اجل ان يلتقط الوطن كل فرصة للسلام، وكنا عنصرا" اساسيا" مـن عناصر الارادات التي توافـقت على دعم اتفاقية الطائف باعتبارها اتفاقية ضرورة لانهاء الحرب، وبإعتبارها تعبيرا" عن ارادة الرأي العام اللبناني بالخروج من الحرب الفتنة. اما الوصول الى تحقيق السلام كغاية فإنه نتيجة لتضحية كل اللبنانيين من دون استثناء وخاصة الذين قـاوموا مشاريع التقسيم واسقطوا 17 ايار، وفي البعد العربي فإن السلام اللبناني كنتيجة هو ثمرة من ثمار المبادرة السورية الاخوية المستمرة التي اطلقها سيادة الرئيس حافظ الاسد، حيث بذلت في خلالها القيادة السياسية السورية وما تزال الوقت والجهود المضنية لتقريب وجهات النظر بين الافرقاء.
 

ان البيروتيين المخلصين واللبنانيين المخلصين لن يسقطوا من ذاكرتهم اننا كنا اول من نادى من الخنادق المتقابلة الى الاعتراف بضرورة الدولة، والمشاركة المستمرة في بناء هيكلها، والاعتراف بالاخر، وتغليب لغة العقل والحوار، وتسليم الاسلحة وحل الميليشيات سلميا" وطوعيا"، ودعم مبادرات الدولة في انهاء كل مظاهر التمرد والتشويش، واعادة توحيد الجيش واطلاق فعاليات الادارات الرسمية.
 

لقد كنا ولا نزال ملتزمين اسس تربيتنا وتنشئتنا الوطنية منذ عهود دراستنا في الحكمة والمقاصد، ثم في مدرسة الامام الصدر الذي بدوره اعطى دروسا" وعلم في المقاصد، في محاولة تنقية مسيرة الجمهورية الثانية من كل شائبة، وتعزيز النظام الديموقراطي البرلماني، عبر التأكيد على مبدأ فصل السلطات والتصدي لكل محاولة لانتزاع صلاحيات استثنائية، او التحول نحو نظام مجلسي بما يؤدي الى احتكار السلطة، وكنا اول من بادر في 31 اب 1997 الى اعلان موت الترويكا ودفنها واعلان رفع الغطاء عن كل موظف مسيء، والدعوة الى تعزيز اجهزة الرقابة، وتصدينا لكل مظاهر التسلط والهدر وكتم الحياة السياسية وتقييد دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي، ومشينا على حد السكين على رأس السلطة التشريعية ووضعنا كل رصيدنا من اجـل تحقيق استقــرار النظام العام.
 

واقول بفخر المقاصدي هنا ومن على منبر مدرستي، انه وبفضل تضحية من تأسسوا على نفس السلوك، تمكنا من الاخذ بيد لبنان نحو حياة الدولة المعاصرة، وبنينا قاعدة الارتكاز القوية لدولة المؤسسات والقانون، التي اصبحت اليوم شعارا" وممارسة في عهدة سيد العهد فخامة الرئيس العماد اميل لحود.
 

لذلك، فإننا اليوم وبمناسبة انصرام عشر سنوات على تصديق اتفاقية الوفاق الوطني، نقول : ان قطار الدولة بات على السكة المطلوبة، وان السنوات التي انصرمت حملت نقلات نوعية ومواقف تاريخية، وان الذين تحملوا المسؤولية خلال السنوات العشر كانت غايتهم رفعة الوطن، لذلك فان فخامة الرئيس ونحن معه لن نقبل، بحرق سمعة الوطن، لأن ذلك ينعكس على الثقة بقيام لبنان وينعكس على بقاء لبنان كضرورة لبنانية وعربية ودولية.
 

اننا نشدد على ان الدولة يجب ان لا تهمل ادوارها تجاه شتى اشكال التجاوزات، وتجاه أي نوع من انواع التهديد للنظام العام وتجاه أي اعتداء على المال العام.
 

ايها الاعزاء
 

انه من نافل القول كذلك ان عملية صنع سلمنا الاهلي وبنائه وتمكين الدولة من اعادة انتاج مؤسساتها وادوارها هي ثمرة صمود شعبنا ومقاومتنا لحروب اسرائيل على ارضنا، وبالمقابل، فإن مقاومتنا للعدوان والاحتلال الاسرائيليين هي نتيجة طبيعية لتبني الدولة بكل عناوينها للمقاومة كحق مقدس لشعبنا بمواجهة التحدي الذي تمثله اسرائيل للبنان في حدوده وانسانه ومائه ووجوده.
 

انني من المقاصد اتوجه الى اللبنانيين لاقول لهم اننا نمر في ادق مرحلة من تاريخ الشرق الاوسط ولبنان ـ ومازلت اكرر نفس الكلام ـ هذه الاربعة اشهر القادمة.
 

ان وحدتنا الوطنية ومقاومتنا ووحدة خطابنا السياسي هي الاساس في مجابهة الاخطار المحدقة بنا، وهي الحاجز الاساسي الى جانب مقاومتنا وجيشنا ووحدة مصيرنا المشترك مع سوريا في منع تحول الجنوب الى نقطة الانكسار في الشرق الاوسط.
 

وطالما الحديث عن الجنوب، فاننا وازاء صورة الحركة السياسية والدبلوماسية الكثيفة الجارية، ندعو الدول المعنية والمحبة للسلام الى التنبه الى ان السلام مناخ وبيئة يجب ان يشعر به ويحسه كل انسان، لذلك يجب ان يتصف بالعدالة والشمول.
 

وطالما ان رئيس الوزراء الاسرائيلي باراك يشهد للرئيس الاسد في باريس بأنه قوي ورزين، ويتصرف من موقع المسؤولية، وان المنطقة كلها تشهد فرصة تاريخية لتحقيق السلام، فإن ما يجب ان يكون مؤكدا" هو ان التسوية العادلة والشاملة التي يريدها لبنان وتريدها سوريا هي التسوية المبنية على قرارات الامم المتحدة وفي الطليعة القرارات 425، 242، 338، والى ضمانات تقنع العرب وفي الطليعة لبنان، بأن اسرائيل لن تستمر باللجوء الى القوة واتباع سياسات عدوانية وتوسعية.
 

كما ان هذه التسوية يجب ان تؤكد على الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، وخصوصا" حقه في العودة قبل حقه في الدولة، لأنه دون تأكيد هذه الحق فإن الدولة - الدولة الفلسطينية - ستكون سلطة على ارض منزوعة من السكان، يحكمها القلق والكوابيس السياسية والاحباط وانتكاس كل شعاراتها، وهي انتكاسة بحجم كارثة تشريد الشعب الفلسطيني عام 1948. هذا هوالتوطين وما يسمونه التوطين.
 

وطالما ان الحديث عن الجنوب والمقاومة والتسوية، فاننا وبهذه المناسبة نؤكد ان لبنان سيتصدى لكل محاولة تجعله رصيفا" للتسوية.
 

ايها الاعزاء
 

لقد اطلت عليكم، ولكني تعلمت في المقاصد ان التقط كرة الكلام الطائرة، وتعلمت في صفوفها قول كلمة الحق، والمناسبة مقاصدية وقانونية ومحاماة وقضاء، لذلك كان لا بد وانا الحقوقي والمشرع من ان اكون شاهدا" بالحقيقة في حضرة العاصمة وفي محكمة لبنان.
 

عشتم
عاشت المقاصد
عاش لبنان

 


أعلى الصفحة | اتصل بنا |

حقوق الطبع محفوظة 2003 ©

أنجز هذا الموقع الفريق الفني في مصلحة المعلوماتية - مجلس النواب اللبناني