19- الحق في السكن


 

يُعتبر الحق في السكن المناسب من الحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية الأساسية للإنسان لكفالة المأوى والعيش الكريم والآمن للشخص وأفراد أسرته. وترتبط بهذا الحق حقوق أساسية أخرى للإنسان كالحق في الصحة والأمان الشخصي، وخصوصية الحياة، والتعليم وتكوين ورعاية الأسرة...

ولكن مع وجود فئات مهمشة ومحرومة وفقيرة من الشعب اللبناني، ومع وجود قانون الإيجارات الإستثنائي الممدّد منذ سنة 1992 ومع الفورة العقارية الأخيرة، إلى أي مدى يتوافر حق السكن فعلاً في لبنان؟

 

I-       الواقع القانوني

 

أولاً: التشريعات الدولية

تنص معظم المعاهدات والإتفاقيات الدولية على ما يمكن اعتباره الحد الأدنى المقبول الذي يتوجب على الدول القيام به لاحترام حق الأفراد في السكن الملائم.

فتنص المادة 11 فقرة 1 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية على حق كل شخص في مستوى معيشي كافٍ له ولأسرته، بما يفي حاجتهم من الغذاء والكساء والمأوى. كما ورد في التعليق العام رقم 4 من لجنة الحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية المخوّلة متابعة تطبيق العهد الدولي الخاص بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية، حق كل فرد بأن يحظى بدرجة من درجات الحيازة  تكفل له الحماية القانونية ضد الإخلاء القسري أو مصادرة الملكية.

كذلك أكدت صكوك دولية أخرى كإتفاقية حقوق الطفل (المادة 27 فقرة 3)، وإتفاقية مناهضة جميع أشكال التمييز ضد المرأة (المادة 14 فقرة ج)  على تعزيز الحق في السكن.

وأكد مؤتمر الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية المنعقد في فانكوفر – كندا عام 1976 على ضرورة التزام الحكومات إتخاذ الإجراءات اللازمة لتأكيد الحق في السكن لجميع الأفراد، ونصت الإتفاقية الصادرة عن المؤتمر العالمي للتنمية والبيئة المعقود في ريو دي جانيرو عام 1992 على ضرورة تأمين الحماية القانونية لجميع الأفراد من الإخلاء غير العادل لمساكنهم. واتخذت الحكومات المجتمعة في دربان إجراءات ملائمة لمنع التمييز العنصري فيما يتعلق بالسكن. وتضمن "إعلان إسطنبول" حول المستوطنات البشرية الذي تم تبنيه من قبل مؤتمر الأمم المتحدة الثاني للمستوطنات البشرية (الموئل ??) عام 1996 تفعيل الحق في السكن الملائم تفعيلاً كاملاً ومتدرجاً، والحماية من التمييز، والمساواة في فرص الحصول على سكن ملائم معقول التكلفة لجميع الأشخاص.

 

ثانياً: البنية التشريعية في لبنان

صدرت في لبنان قوانين عدّة ترتبط بالحق في السكن، منها ما يتعلّق بالإسكان، ومنها ما يتعلّق بالإيجارات.

فبالنسبة إلى قوانين الإسكان: صدر في 17/9/1962 قانون خاص بالإسكان أُنشئت بموجبه هيئة تابعة لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية تُدعى "مجلس الإسكان"، ثم صدر بتاريخ 21/12/1973 القانون رقم 31/73 الذي جرى بموجبه انتقال كلّ المهام الإسكانيّة التي كانت منوطة بـ "مجلس الإسكان" في وزارة العمل والشؤون الإجتماعية إلى "المديرية العامة للإسكان" في وزارة الإسكان والتعاونيات. وصدر في 4/5/1968 المرسوم رقم 9813 الذي أنشأ "الإتحاد الوطني للتسليف التعاوني" وتمّ التصديق على النظام الأساسي للإتحاد في 23/2/1972. ثم وافقت الحكومة في 18/1/1977 على تنفيذ مشروع القانون المحال من مجلس النواب والذي أنشأ "مصرف الإسكان"، ثم صدر في 15/5/1980 القانون المتعلّق بإنشاء "الصندوق المستقل للإسكان"، إلا أنّ هذا الصندوق أٌلغي عام 1996 بموجب القانون رقم 539 الذي أنشأ "المؤسسة العامة للإسكان".

أما فيما يتعلق بقوانين الإيجارات، فقد صدر منذ 12/10/1936 وحتى سنة 2002 حوالي 40 قانوناً ومرسوماً وقراراً من أجل تنظيم العلاقة التعاقدية بين المالك والمستأجر. بالإضافة إلى أحكام الإيجار المنصوص عليها في قانون الموجبات والعقود، وقانون 160/1992 الإستثنائي الذي يرعى الإيجارات المعقودة قبل عام 1992 ويخضعها للتجديد المستمر.

 

II-    الوضع الراهن في لبنان

 

أولاً: الصعوبات والتحديات

تشكّل إشكالية السكن في لبنان معضلة تخطيطية وتنموية ترتكز إلى مقومات قاصرة عن الوصول إلى تحديد دقيق للواقع السكني في لبنان. فيعاني لبنان من غياب الرؤى العلمية والإستراتيجيات الإسكانية نتيجة غياب التخطيط عن عملية تمويل أو بناء المشاريع السكنية والبنى التحتية والفوقية وإعداد الأراضي، وحصر المشاريع السكنية بالمدن دون المناطق الريفية، ما دفع السكان إلى النزوح إلى المدن وإفقار المناطق الريفية، مما أثر سلباً على إحقاق سياسة التنمية المتوازنة.

يضاف إلى ذلك التحديات الإقتصادية والمالية، فلم تلحظ الموازنات منذ العام 2002 أي مبالغ لدعم أو تمويل مشاريع إسكانية؛ كما أُلغيت وزارة الإسكان والتعاونيات وتولّت وزارة الشؤون الإجتماعية مهامها، وأُلغيت المديرية العامة للإسكان والصندوق المستقل للإسكان والإتحاد الوطني للتسليف وتم الإستعاضة عنها جميعاً بالمؤسسة العامة للإسكان التي يقتصر دورها على مراقبة منح القروض السكنية من المصارف التجارية.

ومن أبرز المشاكل على صعيد الإسكان في لبنان هو الغياب شبه التام لدور السلطات المحلية من عدم توفير البنى التحتية ومرافق الخدمة العامة الضرورية وتهيئة الأراضي غير الصالحة للبناء. إضافة إلى ذلك، فإن قوانين البناء في لبنان لا تحدد معايير واضحة بالنسبة لمواصفات البناء ومواد البناء المستعملة.

فتغير مفهوم المسكن في لبنان ليصبح سلعة مقابل تدني القدرة الشرائية للمواطن مع ما سجلته عناصر إنتاج المباني من ارتفاع ملحوظ في السنوات الإخيرة دون أن يستطيع هذا الأخير التقدّم للحصول على قرض سكني من المؤسسات التي تمنح قروضاً سكنية في لبنان وذلك لصعوبة الشروط التي تفرضها هذه المؤسسات وتعقيد إجراءات التقدم بقرض أمامها، مع اختلاف الشروط ونسب الفوائد بين مؤسسة وأخرى.

 

أما على صعيد الإيجارات، فيشكّل قانون الإيجارات الإستثنائي رقم 160/92 المشكلة الأكبر لمالكي الأبنية القديمة بحيث حَرَمهم من خلال التجديد المستمر من الإستفادة من مساكنهم، فضلاً عن أنه يضيّق المجال أمام المالك الراغب باستعادة ملكه عبر وضعه شروط دقيقة وصارمة لإمكانية إخلاء المستأجر أو المستفيدين من بعده من حق التمديد.

 

ويضاف إلى جميع هذه المشاكل، دمار حرب 1975-1990 والعدوان الاسرائيلي المدمر للمباني والبنى التحتية، تاركاً مئات الألوف بلا مأوى صحي أو مناسب.

 

ثانياً:الممارسات والسياسات الرسمية المتبّعة

نشأت عمليات الإقراض السكني الفعليّة في لبنان عام 1977، ففكرة مساعدة المواطنين على تخطي مشاكلهم الإسكانية عبر مؤسسات متخصصة، بدأت تظهر تحت تأثير الكوارث البيئية التي تعرّض لها لبنان عام 1956 (زلازل، فيضانات...) والتي أدّت إلى تشريد آلاف المواطنين مما حمل الدولة على إنشاء "المصلحة الوطنية للتعمير" التابعة لوزارة الأشغال العامة والنقل، إلا أن هذه المصلحة لم تلعب أي دور سكني خارج نطاق الكوارث البيئية التي أُنشئت من أجلها، في وقت كانت تتزايد فيه تعقيدات مشكلة السكن فكان مجلس الإسكان.

وكان يهدف مجلس الإسكان إلى تقديم التسهيلات والمساعدات للمواطنين الراغبين في شراء مسكن والذين يعانون من مشاكل إسكانية ناجمة عن تدني مداخيلهم مقابل شروط محددة يجب أن تتوافر لديهم، كما كان منوطاً به إعداد سياسة إسكانية للحد من الإكتظاظ السكاني في بعض المناطق، من خلال إستحداث مناطق سكنية جديدة. إلا أنه رغم الصلاحيات الواسع الذي أُعطيت له، اقتصر دوره على إنشاء مساكن على نحو غير كامل في مختلف المناطق اللبنانية.

وإضافة إلى الإعفاءات التي كان القانون الخاص بالإسكان قد أعطاها إلى الأفراد الذين يستفيدون من تسهيلات مجلس الإسكان، جاء قانون 1973 ليزيد من هذه الإعفاءات تأكيداً منه على تشجيع البناء السكني، فأعفى المؤسسات والشركات والهيئات التي تنشئ أبنية سكنية وفق أنظمة وقوانين المديرية العامة للإسكان من رسوم الطوابع والتأمين وفك التأمين ومن ضريبة الدخل عن الأرباح وضريبة الفائدة في حال التأمين العقاري.

وبعدما ثبت عدم فاعلية مجلس الإسكان، تم إنشاء المديرية العامة للإسكان التي تهدف إلى حل أزمة السكن التابعة لوزارة الإسكان والتعاونيات، وقد أُعطيت هذه الوزارة مهام وصلاحيات تشريعية جديدة بحيث أصبح لها حق إلغاء وتعديل واستحداث ما تراه ضرورياً من نصوص تشريعية ومن إنشاء للمؤسسات العامة اللازمة لمعالجة أزمة السكن. إلا أن دور المديرية العامة للإسكان اقتصر منذ تاريخ تأسيسها وحتى تاريخ إلغائها على منح القروض لترميم المساكن المتضررة من جراء الأحداث اللبنانية، وذلك بالرغم من الصلاحيات الواسعة التي منحها إياها القانون لمعالجة أزمة السكن من مختلف جوانبها.

كذلك، لم يُحقّق الإتحاد الوطني للتسليف التعاوني، أيّ نجاح يذكر أو أيّ تقدم ملموس على صعيد حل أزمة السكن. أما مصرف الإسكان فتجلّى دوره بمنح قروضاً في سياق زمني غير منتظم، وفي فترات متقطعة بسبب الظروف التمويلية الصعبة التي تعرّض لها أحياناً، كما أنه لم يمنح طوال فترة عمله أي قرض إلى أي شركة أو مؤسسة أو جمعية، بل اقتصر عمله على منح القروض للأفراد.

 

III-  التوصيات

 

1.      توحيد المؤسسات التي تمنح القروض السكنية وتبسيط الشروط المطلوبة للحصول على قروض وإلى حينه تأمين الموارد المالية للمؤسسات الموجودة وتفعيل المشاركة بين القطاعين العام والخاص على هذا الصعيد لتمكينها من تقديم خدمات أفضل لشريحة أكبر من المواطنين وبكلفة أقل تسمح باستمرارية خدماتها.

2.      تشجيع البناء السكني التأجيري لذوي الدخل المتدني أو المحدود.

3.      ترسيم استراتيجية إسكانية وتطوير القطاع السكني في لبنان في إطار شامل لتنمية سكنية مستدامة عبر توزيع فرص البناء على المناطق.

4.      توفير البنى التحتية والخدمات العامة الضرورية للمدن والقرى التي يتم فيها مشاريع بناء.